توطئة

في كتابه روح القوانين للفيلسوف مونتسكيو الصادر عام 1748 وضمن ما طرحه وصار بعد ذلك ملمحاً لمواجهة الإستبداد ومنع تغول السلطات وعنواناً للدولة الحديثة ، تناول عن مبدأ الفصل بين السلطات قائلا :

وجوهر المبدأ تقسيم السلطات ثم الفصل بينها ، وهذا الفصل هو ما يمنع جعلها مرتبطة بجهة واحدة او سلطة واحدة لأن حدوث ذلك سيفضي حتماً إلى استبداد سياسي ينعكس في إحدى صوره بالضرر على حريات الناس” .

وتتجلى ملامح الاستقلال في هيئة تشريعية  تحاسب السلطة التنفيذية وفق الآليات المتعارف عليها والتى تصل إلى سحب الثقة وأعمال الرقابة على أداء السلطة التنفيذية بل وإلى توجية إتهامات جنائية ، ثم إصدار قوانين تحافظ على معايير العدالة في الانظمة الديمقراطية ،وكذلك قضاء مستقل يفصل بين السلطة وأجهزتها وأدواتها المختلفة وبين الأفراد وعلى نحو واضح.

فالاستبداد يعرف هدفه ويعبد الطرق للوصول إليه، حتى لو تطلب ذلك المرور فوق حرياتهم وحياتهم معاً ، ربما يبدأ الأمر بإهدار نصوص الدستور فإذا شكل ذلك خرقاً واضحاً يتم تعديله، ثم خلق هيئات تبدو منتخبة وقضاء يحال بينه وبين استقلاله .

  • ومصر ليست حالة فريدة عن ذلك بل أنها تقدم نموذجاً حيا له ، وهو نموذج  بدأ منذ سنوات عديدة ، تبدت ملامحه الآن بشكل أوضح في العدالة وما يتصل بها .
  •  كان ذلك على مستويات مختلفة منها ماهو نصى تشريعي ومنها ما هو أمني وأن تلبس أثواب أخرى . ومنها ماهو مادي بوضع عراقيل واختلاقها على نحو أصبح هاجساً ووسواساً بعد ثورة 25يناير ، ليتم التنكيل بكل من ينتمي اليها وبكل ما يتصل بها وما يعبر عنها وعن كل ما سعت اليه من تطلعات .

المستهدف من هذة الورقة 

تهدف هذه الورقة ألى سرد لملامح حال العدالة في مصر، عن سبل اهدار العدالة في مصر ، حيث المعاقبين بالحبس الاحتياطي وعدد مرات تجديد الحبس لكل متهم ، وما يسمي بالتعذرات الأمنية ، بجانب ظاهرة التدوير بقضايا جديدة .

والمنهج في هذة الورقة يوضح خارطة انتهاك العدالة في مصر ، وهو إنتهاك لا يحول دونه نصوص القوانين أوالدستور، ولا تحول دونه سوابق قضائية إستقرت  وجرى العمل بها لعقود ، كان التعامل بتلك السوابق يقترب أو يبتعد لكنه لم يشهد إنقاطعاً مثل ذلك الذى جرى في مصر ويجري الآن.

سنعرض للقرار الخاص برفع حالة الطوارىء وهل لذلك آثر ثم نعرض للحبس الاحتياطي ، وكذلك للتدوير بإعادة من أفرج عنه إلى محبسه مرة أخرى ، ونعرج على تلك العقبات المادية والإجرائية التى تمثل تحايلاً على العدالة , والتجديد الورقي للحبس الإحتياطي ، ثم سطوة التحريات الأمنية ،  ثم نحدد المسؤولية عن ذلك ونبحث عن حلول .

  • من طوارئ استثنائية الى طوارئ عادية

تحتفي الشعوب عادة بإلغاء حالة الطوارىء لانها في النهاية حالة إسثنائية تخالف ألاوضاع الطبيعية ، والغاؤها أو وقف العمل بها يدفع نحو الإنتقال الي حالة طبيعية يستشعرها الجميع، وهو مالم يحدث بعد إعلان رفع حالة الطوارىء في 25/10/2021 والتى فرضت منذ 2017 بإعتماد تفسير دستوري للمادة رقم 154 والتى تخول رئيس الجمهورية حق اعلان حالة الطوارىء بشرط أخد موافقة مجلس النواب عليها والمادة حددت المدة  الاقصي لها بثلاثة أشهر ولا تمدد الا مرة واحدة بعد أخذ موافقة ثلي مجلس النواب ، وتم إعتماد تفسير يخالف صريح النص ففرضت الطوارىء منذ 2017 حتى اكتوبر 2021 ، وغياب الإحتفاء بإنهاء حالة الطوارئ يعود الى جملة اسباب منها إختفاء أي أثر لذلك على الارض،  فلم يخرج مدانين ولا محبوسين إحتياطياً وظلت الاوضاع قبل إنهاء حالة الطواري كما هي بعد الإنهاء .

الثانية أن أوضاعاً إسثنائية كان ينظمها قانون الطوارئ إنتقلت الى صلب القوانين العادية ومنها على سبيل المثال قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015 والقانون رقم 8 لسنة 2015 بشأن القوائم الإرهابية والقانون 121 لسنة 2019 والقانون 22 لسنة 2018 فضلاً عن تعديلات أخري في قانون العقوبات ، ولعل  تعديل أحكام القانون 136 لسنة 2014 بعد الإعلان عن رفع حالة الطواريء والخاص بتأمين وحماية المنشئات الهامة والحيوية بجعل الاختصاص منعقداً  للقضاء العسكري في الجرائم المتعلقة والمرتبطة بهذا القانون يؤكد صدقية عدم الإحتفاء بإنهاء حالة الطوارئ.

  • صناعة التدوير المتلبس بالإخفاء للإفلات من تطبيق القانون  

إنتهت مدة الحبس الاحتياطي المنصوص عليها في القانون ، السلطة لم تعدل القانون  الخاص بالحبس الإحتياطي،  فربما يثير تعديلة ردود أفعال سياسية وحقوقية بجانب المآخذ الأخرى في هذا الملف ، المتهم أمضي كامل المدة يتعين الإفراج عنه فوراً وهذا هو التطبيق الحرفي للقانون ، على باب السجن عد كما كنت هناك محضر ضدك ، المحضر يسطر على أن المفرج عنه وهو داخل محبسه سعي لإحياء تنظيم ! أجري اتصالات ! يسعي لتحقيق مصلحة جماعة إرهابية !، عرض على النيابة ويبدأ فصل جديد من الحبس الإحتياطي في سابقة لم تحدث في تاريخ مصر ، عشرات يقبعون خلف القضبان بحيلة التدوير التى أصبحت منهجاً .

بينما  أهل المتهم في انتظارة وفقاً للقرار الصادر بالإفراج عنه لكنه إنتظار قد يصل الى اسابيع عديدة ليدخل المتهم عادة في حالة إختفاء ، فلا هو قد أفرج عنه ولا هو قد عرض على جهة قضائية ، وتمر تلك الأسابيع ثقيلة حتى يتم اكتشاف ذلك بالمصادفة عن طريق أحد المحامين أن المتهم الذى جرى الإفراج عنه يعاد التحقيق معه في قضية جديدة ، ونصبح أمام أمرين معاً  الإخفاء ثم التدوير.

  • اهدار نص الدستور بحق الاتصال التليفوني.

ينص الدستور على ان يخطر المتهم باتهامه كتابة ويتصل تليفونيا بمن يرغب ،

سألت الشبكة العربية نحو 25 متهم ومحبوس ومفرج عنه :

  • السؤال: هل سمح لك بالاتصال التليفوني؟
  • الاجابة : كلا لم يسمح لي.
  • هل سألتك النيابة أو اثبتت ذلك؟
  • لا ، لم تسـألني.

النيابة تهدر الدستور.

  • غياب المحامي الاصلي ، عن اول تحقيق

من الحيل كذلك أن المتهم وضماناً لحقوق دفاعة فإن  الدستور والقانون يشترط حضور محاميه اثناء التحقيق معه،

الذي يحدث عادة أن النيابة تعمد للانفراد بالمتهم في اول تحقيق ، أو تثبت في محضرها أنها أرسلت تسأل عن محامين داخل النقابة فلم تجد! وبالتالي فإنها تجري التحقيق دون حضور محام مع المتهم .

  • التحريات من  مجرد رآي لمجريها الى سند .

المعروف قانونياً وفي التطبيق القضائي بشأن التحريات أنها مجرد رآي لمجريها وأن التحريات بمفردها لا تصلح دليلاً للإدانة ما لم يكن هناك دليل يعززها.

في التطبيقات القضائية والمعمول بها حتى الآن في القضايا الجنائية على تنوعها انه لا يمكن لحكم قضائي بالإدانة أن يستند الى مجرد تحريات وأن صدور حكم إستناداً لذلك يعرضه قطعاً للطعن بالإلغاء أو النقض ، الا أن الغالبية الغالبة من القضايا السياسية لا تسند سوي على تحريات يجريها ألامن الوطني ، مجرد سرد اقرب في بعض القضايا إلى خيال جامح ، فالتحريات تتحدث عن تحقيق أهداف جماعة إرهابية دون حتى ان تحددها ، وهي تتحدث عن اتصالات دون أن توثق إتصال واحد ، وتتحدث عن إجتماعات دون شىء على الارض!  الادهى ان ذات هذة الاتهامات في التحريات تتكرر مع القضايا التى تم التدوير فيها ، وترصد ان هناك إجراء اتصال مع تنظيم ومن داخل السجن ! واجتماعات ومن داخل السجن ! لنصل في النهاية إلى تكرار حبس المتهمين ، لتصبح كوميديا سوداء تغتال قاعدة العدالة المفترضة وهي إحترام جزء من التفكير ومعه جزء من العقل .

  • الحبس الإحتياطي من مبرر إستثنائي الى قاعدة 

أخطر إجراء جنائي يمكن إتخاذة هو الحبس الإحتياطي ، لانه يسلب حرية الفرد قبل ثبوت الجريمة ، وقبل المحاكمة ، ويتجاوز قاعدة ألاصل في الإنسان البراءة ، لذلك فهو في كل التشريعات الحديثة وفي قانون الإجراءات الجنائية والتعديلات التى أدخلت عليه عام 2006 هو إجراء إستثنائي ، واللجوء اليه لا يكون إلا في حالات الضرورة القصوي ، هذا الإجراء الإستثنائي تحول الى قاعدة بدلاً من أن يظل إستثناء وبالتغاضي عن حالة الضرورة التي يمكن أن تبيحه بشروط ضيقه ومحددة، هذا الاجراء تحول منذ عام 2013 الي سيف مسلط بإسم القانون علي كل متهم لافرق بين متهم بإشاعة خبر كاذب أو متهم بالعنف ، لافرق بين جريمة اكتملت ادلتها وزالت فيها خشية التأثير على الادلة أو الشهود وبين جناية يمكن ان يتوافر لبعضاً منها تلك الخشية ، على سبيل المثال فإن الإتهام الاكثر الذي يطال المنتمين الى ثورة 25 يناير هو إشاعة أخبار كاذبة وجميعها مرتبط بمحتوي على وسائل التواصل الاجتماعي ويتصل بالحق في التعبير ، ومن ثم فإن هناك تقرير فني يثبت نسبة الصفحة ويوثق المحتوي توثيقاً رسميا أي انها نموذج لإتهام لايستطيع أحد التلاعب فيه ، خاصة أن هذا التلاعب يمكن ان يتم من غير صاحب الصفحة إذا كان مع آخر بيانات دخولها ورغم وضوح ذلك ورغم عدم إنطباق شروط الحبس الإحتياطي ورغم أنها جنحة فإن النيابة تقرر الحبس ثم تمدد الحبس ثم ينتهي دور النيابة في التجديد فيبدأ دور المحكمة التى تمدد هي الاخري الحبس حتى يصل الي منتهاة فإذا وصل وتعين الإفراج يفاجئ المتهم بمحضر تحريات في موضوع جديد ويتم تدويرة مرة أخري لتبدأ مدة جديدة ، وحلقة جهنمية لاتنتهي .

  • تجديد الحبس ورقياً أو أون لاين 

لا يقف الأمر عند توقيع الحبس الاحتياطي بدون مبررات واضحة وفقاً لنص القانون ، إنما يتجاوزه الى الإستهانة بنصوص واضحة منها أن يمثل المحبوس احتياطياً أمام قاضية ، فتم تجاوز ذلك أيضاً عبر وسيلتين ،  الأولى وهي الغالبة أن يتم الجديد ورقيا ” بسبب غياب المتهم ومزاعم تعذر نقله”  وكأن إجراء الحبس مجرد تجديد رخصة ، وورقيا هنا معناها ألا يحضر المحبوس ويقدم دفاعاً جديداً ودفوعاً جديدة يمكن تقديمها وإعادة تقديمها في كل مرة لتبقي مطروحة أمام القضاء بشأن هذا المحبوس تحديداً وإنما ترسل الأوراق والمتهم في محبسة يعلم أو لايعلم ويتخذ قرار التجديد ، الثانية هي فكرة أن يمثل المحبوس أمام كاميرا في محبسه تنقل أمام القضاء ويتم الجديد دون مثوله بشخة وهذا ايضا مخالف للقانون لكنه يتم ، هي جملة واسعة إذن من إجراءات تعسفية تخترق إجراءات المشروعية وتحيل الأخيرة الى مجرد شكل فارغ من أي مضمون يتعلق بضمانات المحبوس إحتياطياً .

من المسؤول ؟

يجب التفرقة بين المسؤولية السياسية والقانونية ،

  • ففي الأولي النظام السياسي بالكامل مسؤل مسؤلية مباشرة ، ويتسع مفهوم النظام السياسي في هذة الإنتهاكات ليس الى الحكومة بمعناها الوزاري بل الى كافة اضلعة السلطات المتصلة بهذا الملف وسواء كان شكلها تنفيذي أو قضائي لافرق.
  • في الجانب القانوني فإن الدولة مسؤولة في مواجهة ضحايا الخرق الواضح للقانون و النصوص الدستورية ، ودستور 2012 وتعديلاته في عام 2014 افترضت ذلك وقررت جبر ضحايا الحبس الإحتياطي وجبر ضحايا من صدرت ضدهم أحكام ونفذوها أو نفذوا جزء منها ثم صدر حكم قضائي بات بإلغاء تلك العقوبة بتعويض مادي يتمثل في منحهم تعويضاً يجبر كافة الأضرار التى لحقت بهم  وفقاً لما نصت عليه  المادة 54 من دستور 2014 ، و هذه المادة صالحة للتطبيق منذ صدور دستور 2014 وإذا كانت الدولة لم تسن قانوناً منظماً فليس لها أن تستفيد بتراخيها من إصدار مثل هذا القانون .

هل هناك من حلول ؟

وجود الارادة السياسية ثم القرار السياسي هما بداية تلك الحلول

فإذا كانت هناك إرادة فإن القرار السياسي هو الفيصل في ذلك ولا غيره ، لان الانظمة التى تشرعن الإستبداد قد فعلته بقرار وخلقت اصطفاف استبدادي يبدأ من القمة حتي القاعدة ، ولعل ابسط الإجراءات التي يمكن إتخاذها:

  •  (اولا) مجرد إحترام نصوص القوانين الموجودة فقط وهو الحد الادني الذى يمكن إتخاذة ، على سبيل المثال سرعة الإفراج الفوري عن كل من أمضي عامين في الحبس الإحتياطي
  •  (ثانياً ) تطبيق الشروط الواجبة في الحبس الاحتياطي بحيث لايطبق إلا عند الضرورة فقط وبشكل إستثنائي
  •  (ثالثاً ) تعديل قانون الإجراءات الجنائية بحيث ينص على الإحالة للمحاكمة في مواد الجنح بمضي ستة أشهر من الحبس الإحتياطي اذا كان المنسوب للمحبوس جنحة أو عام إذا كان المنسوب للمحبوس  جناية
  • (رابعا) منع مايعرف بالتدوير بموجب نص قانوني بأنه لايجوز منع الافراج عن أى مسجون إحتياطياً لأي سبب وإن تعلق الامر بإتهام  جديد يدور أو يتعلق أو يتصل أو بأي إتهام وقع بسببه الحبس الإحتياطي
  • (خامساً ) السماح الدائم لمظمات المجتمع المدني  المحلية والدولية من الالتقاء بالمحبوسين في قضايا تري تلك المنظمات أنها قضايا سياسية
  • (سادساً ) وقف تنفيذ عقوبة الإعدام المقضي بها وعرضها على لجنة خاصة وإستخدام الرئيس لصلاحياته الدستورية في الغاء العقوبة أو وقف تنفيذها .
  •  (سابعاً )  رفع الحجب عن المواقع الحقوقية علي الفضاء الإلكتروني ففضلاً عن أن ذلك يتصل بحرية التعبير فإن له صلة وثيقة بالتنبية الي خروقات حقوقية يجب الإستماع اليها وإزالة اسبابها .

للنسخة PDF