أولاً: التقديم

للدخول إلى ملف حرية الرأي والتعبير في العراق يجب في البداية معرفة التوازنات السياسية الدقيقة الإقليمية منها والدولية التي تحكم البناء السياسي للسلطة في العراق. فمنذ تشكيل أول حكومة انتقالية عام 2004، تحول نظام الحكم إلى نظام مبني على المحاصصة، حيث تسلم الشيعة رئاسة مجلس الوزراء، فيما كان رئيس الدولة من السنة بينما تولى الأكراد رئاسة البرلمان، وعقب انتخابات عام 2005 التي قاطعها السنة تولى الأكراد منصب رئاسة الجمهورية، وتولى الشيعة منصب رئاسة الحكومة، وترأس السنة البرلمان. وباتت المحاصصة عرفا سياسياً سائداً حتى يومنا هذا رغم عدم وجود أي مادة في الدستور تنص على ذلك. وأدى نظام المحاصصة إلى الاعتماد على الطائفية والمذهبية والمصالح الحزبية الضيقة في إسناد الوظائف الحكومية، وهو ما عمل على انتشار البطالة، وبات المواطن لا يجد عملاً يستطيع منه توفير احتياجاته الأساسية رغم وفرة البترول والثروات الطبيعية في البلاد. كما شجع نظام المحاصصة على الفساد وبناء شبكات مصالح ومجموعات مسلحة تدافع عن الفساد وتتخذ من الهجمات المسلحة، والاعتقالات والتخويف وسيلة لمنع الصحفيين وسائل الإعلام الحرة من تتناول قضايا الفساد. وارتبط اسم العراق بالفساد واحتل المرتبة 12 في لائحة الدول الأكثر فسادا في العالم عام 2018.

ثانياً: التطور التشريعي والقانوني

عرض مجلس النواب قانون “جرائم المعلوماتية” الذي قدمته الحكومة للنقاش أمام البرلمان، يوم 12 يناير 2019، وانتهى المجلس من القراءة الأولى للقانون في نفس اليوم إلا أن القراءة الثانية لمشروع القانون تم تأجيلها بعد تصاعد الاحتجاجات الحقوقية ضده، وكلف البرلمان اللجان المعنية بالقانون بمراجعته وإجراء التعديلات الضرورية على صياغته. وفي 14 مارس 2019، أدرج رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، مناقشة مشروع القانون في جدول أعمال الجلسة، إلا أن لجنة حقوق الإنسان في المجلس تقدمت بطلب رفع فقرة مناقشة التقرير الخاص بمشروع القانون من جدول أعمال الجلسة، وهو ما تم فعلا.

ويحتوي مشروع القانون على أربعة فصول، يتضمن الفصل الأول منها التعاريف والأهداف، ويتضمن الفصل الثاني الأحكام العقابية، أما الفصل الثالث فإنه يتضمن إجراءات جمع الأدلة والتحقيق والمحاكمة، فيما يتضمن الفصل الرابع أحكامًا عامة وختامية.

ويعد قانون جرائم المعلوماتية منزلقاً خطيراً لحرية التعبير في العراق حيث يزخر القانون بالتعبيرات المطاطة التي تفرض عقوبات قاسية بالسجن والمؤبد والغرامة ضد نشطاء الإنترنت على جرائم مبهمة مثل “المساس باستقلال البلاد ووحدتها وسلامتها أو مصالحها الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية أو الأمنية العليا”، وجريمة “تكدير الأمن العام أو الإساءة إلى سمعة البلاد”، وايضا “الإضرار بالاقتصاد الوطني والثقة المالية للدولة”.

والجدير بالذكر أن مشروع هذا القانون عرض على البرلمان لمناقشته عام 2011، قبل سحبه في 6 فبراير 2013، تحت ضغط منظمات المجتمع المدني.

كما أنهى مجلس النواب القراءة الاولى لمشروع قانون حرية التعبير عن الرأي والاجتماع والتظاهر السلمي في 24 يونيو 2019، وسبق أن قدمت الحكومة هذا القانون للبرلمان في دورات سابقة، وقابلته منظمات حقوق الإنسان بمعارضة شديدة لخطورته على الحق في حرية التعبير، حيث قيدت المادة السابعة من مشروع القانون حق الاجتماع العام بالحصول على إذن مسبق من رئيس الوحدة الإدارية قبل الاجتماع بخمسة أيام، كما أعطت الحق لرئيس الوحدة الحق في رفض طلب الاجتماع العام، ووضعت على كاهل اللجنة المنظمة للاجتماع الطعن على القرار أمام القضاء، وكذلك كبلت المادة الثامنة الحق في حرية التجمع السلمي حيث نصت على أنه لا يجوز عقد الاجتماع في الطرق العامة، ولا يجوز أن يمتد الاجتماع بعد العاشرة مساءً، كما احتوى مشروع القانون على تعبيرات مرنة يمكن استغلالها في قضايا كيدية ضد المواطنين مثل عبارة “النظام العام”، وعبارة “الآداب العامة”.

ثالثاً: القضايا الأكثر تأثيراً في حرية التعبير

شغلت الرأي العام في العراق خلال هذا العام عدد من القضايا من بينها ضحايا عنف السلطات العراقية والجماعات المسلحة ضد المتظاهرين احتجاجاً على تفشي الفساد وسوء الخدمات العامة والبطالة، وقضية حجب قناة الإباء الفضائية من قبل إدارة القمر الصناعي نايل سات، بسبب بثها صور عمليات للمقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي عام 2003، حيث أطلقت مؤسسات اعلامية وناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، حملة واسعة للتضامن مع القناة، تمكنت في النهاية من رفع الحجب عن القناة.

كما نالت قضية اغتيال مقدم البرامج في قناة NRT الكردية آمانج باباني وزوجته الصحفية وطفلهما بدم بارد، اهتمام الرأي العام في البلاد.

رابعاً: الإنتهاكات التي نالت من حرية التعبير

المنع من العمل

يعد منع الصحفيين من التغطية الإخبارية من الانتهاكات الشائعة في العراق خلال عام 2019، وعلى سبيل المثال  فقد منعت قوات مكافحة الشغب في ميسان (تبعد 400 كم جنوب شرقي بغداد) يوم 2 سبتمبر، مجموعة من القنوات الفضائية من التغطية الاعلامية لعملية فض اعتصام مجموعة من المهندسين أمام شركة نفط ميسان من قبل قوات مكافحة الشغب، وقام أحد الضباط بالاعتداء على مصور قناة دجلة الفضائية حسن عيسى، وسحب معدات التصوير ومسح المادة التي تم تصويرها.

كما أغلقت هيئة الإعلام والاتصالات، يوم 2 سبتمبر، أيضاً المكاتب المحلية لقناة الحرة التي تمولها الحكومة الأمريكية، لمدة 3 أشهر، بزعم التحيز وتشويه السمعة على خلفية قيام القناة ببث تحقيق استقصائي كشف وجود فساد داخل المؤسسات الدينية في البلاد، وطالبت هيئة الاعلام والاتصالات العراقية مكتب إدارة القناة في العراق بث اعتذار رسمي.

الحبس

توسعت ظاهرة حبس واحتجاز الصحفيين ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، ولم تقف عند حدود القضاء أو حتى قوات الأمن بل امتدت لتشمل فئات أخرى من العاملين في الحكومة فعلى سبيل المثال احتجزت قوة من الشرطة يوم 22 يناير، كلا من مراسل قناة الموصلية زياد طارق بشير والمصور احمد امجد حامد، واقتادتهما الى مقر الفوج الخامس وحاولت إجبارهما على تعهد بعدم التغطية الصحفية في منطقة الموصل القديمة، وبعدما رفضا التوقيع جرى نقلهم الى مركز شرطة السرجخانة.

كما اعتقلت مديرية الأمن الوطني في محافظة النجف، مساء يوم 8 مارس، مراسل قناة “NRT عربية ” في النجف حسام الكعبي قبل أن يفرج عنه يوم 9 مارس، وذلك بسبب منشورات وآراء ابداها الكعبي على منصات التواصل الاجتماعي.

وفي انتهاك آخر داهمت قوة غير معروفة منزل الصحفي المصري الأصل هاني البارودي رئيس تحرير وكالة البرق نيوز، في منطقة اليرموك غرب العاصمة بغداد فجر 25 يوليو، واقتادته إلى جهة مجهولة.

الحجب

تأسست في العراق بعد عام 2003، أكبر عدد من القنوات الأرضية العمومية والخاصة في الدول العربية، وتمتلك شبكة الإعلام العراقي الممولة من الحكومة، عدداً من القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية والصحف والمجلات اليومية والأسبوعية، ويقوم على إدارة الشبكة مجلس أمناء يتم تعيين أعضاءه بواسطة الأحزاب القوية وتمنحهم رواتب تقاعدية بعد نهاية ولايتهم.

أما القنوات الخاصة فإنها تخضع بالكامل للمجموعات المسلحة والأحزاب القوية والشخصيات النافذة في الحكم، ولذلك نجد انه نادرا ما تقدم الحكومة العراقية الضعيفة على حجب القنوات التلفزيونية.

أما بالنسبة لإدارة القمر الصناعي “نايل سات” المصري فقد حجبت في 3 مارس الماضي قناة “الإباء” الفضائية التي تبث من العاصمة العراقية بغداد، وذلك بسبب بثها صور عمليات للمقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي عام 2003.

أما فيما يتعلق بحجب الانترنت أو مواقع التواصل الاجتماعي فإن السلطات العراقية قطعت شبكة الإنترنت وحجبت شبكات التواصل الاجتماعي في بعض المناطق، وألقت باللائمة على من وصفتهم بأنهم “مثيري الشغب”.

وعلى سبيل المثال عملت السلطات العراقية خلال احتجاجات شهر أكتوبر 2019، على منع نشر الصور والفيديوهات التي تكشف تعاملها العنيف مع المحتجين، ومنع التواصل بين المتظاهرين.

فبعد يوم من انطلاق موجة الاحتجاجات في الأول من أكتوبر، حجبت السلطات العراقية أغلب مواقع التواصل الاجتماعي، قبل أن تقطع الإنترنت بشكل شبه كامل يوم 3 أكتوبر، وألقت باللائمة على من وصفتهم بأنهم “من مثيري الشغب” وتركت المتظاهرين بلا وسيلة تواصل عدا الاتصالات التليفونية.

الاعتداءات

قتل الصحفيين ونشطاء الرأي، والاعتداء المسلح على المنشآت الإعلامية هي الطريقة المفضلة عند شبكات الفساد في العراق، واستمرت تلك الطريقة هي أعلى الطرق استخداماً على مدار عام 2019، فعلى سبيل المثال تعرضت الناشطة الحقوقية، هناء أدور، لحادث دهس بسيارة مسرعة يوم 14 يونيو بعد كلمة ألقتها بذكرى سقوط مدينة الموصل وسط العاصمة بغداد أكدت فيها على ضرورة محاسبة المقصرين في حادثة سبايكر التي ذهب ضحيتها 1700 مقاتل عراقي وسقوط مدينة الموصل بيد تنظيم داعش.

كما أمطر مسلحون مجهولون مقدم البرامج في قناة NRT الكردية آمانج باباني وزوجته الصحفية وطفلهما بوابل من الرصاص فارقوا على اثرها الحياة مباشرة، وذلك أثناء تواجدهم في سيارتهم الخاصة بالقرب من فاملي مول في مدينة السليمانية (تبعد 355 كم شمال شرق العاصمة بغداد)، مساء يوم 16 أكتوبر، وغادر الجناة المكان دون ملاحقة أو صعوبة تذكر.

كما تعرضت ثلاث قنوات فضائية للإحراق من قبل ملثمين مجهولين، ففي يوم 5 أكتوبر أقدم ملثمون مجهولون على احراق مبنى قناة دجلة في بغداد، بعد تقييد حراس المبنى، والاعتداء عليهم، كما اقتحمت مجموعة مسلحة مبنى قناة NRT عربية وحطمت جميع معدات البث واعتدت بالضرب المبرح على موظفيها بعدما قامت بالاعتداء على عناصر الشرطة المحلية المتواجدين في محيط المبنى، وفي نفس اليوم هاجم مسلحون ملثمون يستقلون سيارات سوداء مقر مكتب قناة الحدث الإخبارية السعودية في شارع أبو نواس بالعاصمة، ودمروا بعض المعدات وأجهزة الهاتف، كما اعتدوا على الصحفيين الذين كانوا متواجدين في مقر القناة.

وفي انتهاك أخر تعرض أحمد الزاويتي، مدير مكتب قناة الجزيرة في كردستان العراق للاعتداء بالضرب من قبل قوات مكافحة الإرهاب يوم 17 يوليو، خلال تغطيته حادث اغتيال دبلوماسيين أتراك في أحد مطاعم مدينة أربيل.

كما فضت قوات الأمن العراقي، بالعنف يوم 25 سبتمبر، اعتصام حملة الشهادات العليا أمام مكتب رئيس الحكومة عادل عبدالمهدي، في منطقة العلاوي وسط العاصمة بغداد؛ من أجل المطالبة بتعيينهم مما أدى إلى جرح عدد من المعتصمين، والصحفيين الموجودين لتغطية الحدث.

ومع تصاعد المظاهرات التي انطلقت في عدد من المدن العراقية في الأول من أكتوبر، للاحتجاج على سوء الخدمات العامة وتفشي الفساد وعدم توفر فرص عمل، أطلقت قوات الأمن الذخيرة الحية وقنابل الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين مما أسفر عن مصرع نحو 104 شخص وتجاوز عدد المصابين 6100 جريح، حتى يوم 6 أكتوبر.

التخويف

التخويف نمط تستخدمه الجماعات المسلحة والسلطات العراقية في محاولة لتكميم الاعلام الحر واسكات الاصوات التي تنتقد أداء الحكومة وعلى سبيل المثال هدد الفريق الركن قاسم نزال قائد عمليات البصرة يوم 3 يوليو، الصحفيين الذين يغطون تظاهرات المدينة المنكوبة بالحبس في حالة تغطية تظاهرات غير مرخصة.

كما أعلن الصحفي المستقل حيدر الحمداني، يوم 6 يوليو، عن تلقيه سلسلة من التهديدات عبر تعقبه من قبل مجهولين والسؤال عنه في قضاء الرميثة بمحافظة المثنى، وجاءت تلك التهديدات بعد انتقاد الحمداني سوء الخدمات في المدينة والتأكيد على ضرورة إنهاء الظواهر السلبية، وتوفير مستلزمات الحياة للمواطنين.

وفي نفس الإطار استهدف مسلحون مجهولون يستقلون سيارة بيضاء منزل الصحفي فاضل عمر مراسل قناة “كردستان تي في” التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني في قضاء قلعدزة (160 كم شمال شرق السليمانية) بإطلاق نيران مساء 9  أغسطس.

خامساً: الاتهامات الأكثر شيوعاً ضد حرية التعبير

لا تحتاج المجموعات المسلحة وشبكات الفساد في العراق إلى اتهامات ومحاكمات -حتى وإن كانت صورية- لقمع الأصوات الناقدة والكاشفة للفساد وأكتفت تلك المجموعات باللجوء إلى العنف لقمع تلك الأصوات، ولكن بقيت بعض الاتهامات الشائعة مثل “التحيز وتشويه السمعة”، و”الحث على العنف والإرهاب أو الكراهية، وتهمة “التصوير السري”، و”تغطية تظاهرات غير مرخصة”.

سادساً: الضحايا

بلغ عدد ضحايا قمع حرية التعبير خلال عام 2019، الآلاف، من بيهم القتلى والجرحى في المظاهرات، ومن بينهم أيضا مؤسسات إعلامية، إلى جانب الصحفيين ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي ونذكر على سبيل المثال:

نحو 104 قتيل، وما يزيد عن 6 ألاف جريح، من المشاركين في مظاهرات شهر أكتوبر، للاحتجاج على سوء الخدمات العامة وتفشي الفساد وعدم توفر فرص عمل، حملة الشهادات العليا الذين اعتصموا يوم 25 سبتمبر، أمام مكتب رئيس الحكومة وسط بغداد.

هذا إلى جانب قناة “الإباء” الفضائية، قناة الحرة التي تمولها الحكومة الأمريكية.

وضمت قائمة الضحايا حراس مبنى قناة دجلة في بغداد، موظفو قناة NRT عربية في بغداد، الصحفيون بقناة الحدث الإخبارية السعودية في بغداد.

كما ضمت قائمة ضحايا القمع كل من الناشطة الحقوقية، هناء أدور، مقدم البرامج في قناة NRT الكردية آمانج باباني وزوجته الصحفية وطفلهما، الصحفي حيدر الكرار المصور في ( ANA Arabia )،  مصور قناة دجلة الفضائية حسن عيسى،  مراسل قناة الموصلية زياد طارق بشير، والمصور احمد امجد حامد، ومراسل قناة “دجلة” الفضائية، أنس يوسف ومصور القناة أحمد محمد، مراسل قناة “NRT عربية ” في النجف حسام الكعبي، الصحفي المصري الأصل هاني البارودي رئيس تحرير وكالة البرق نيوز، أحمد الزاويتي، مدير مكتب قناة الجزيرة في كردستان العراق، الصحفي المستقل حيدر الحمداني، والصحفي فاضل عمر مراسل قناة “كردستان تي في”

انتهى